إنجيل يوحنا اصحاح ٦ - الحكمة تدعو إلى العيد
قد لاحظنا أنّ يوحنّا غالبًا ما يأخذ مساراتٍ مختلفةً عن البشيرين الثلاثة الأوائل. الآن، في الأصحاح السادس، نرى أنّ المساراتِ تتوحّد إلى حدّ بعيد. ويرِد وصف أُعجوبة الإطعام في إنجيل مرقس (٦: ٤٠-٥٢)؛ يسوع يمشي على الماء. وتتكرّر نفس الموضوعات: يُطلب من يسوع إعطاء علامة (مرقس ٨: ١١-١٣)، بطرس يعترف بإيمانه بالمسيح (مرقس ٨: ٢٧). مثل مرقس (مرقس ٨: ٣١-٣٨) ويوحنّا، درب المسيح الآن يتحوّل بوضوح نحوَ العار والتدهور. يُمكننا أن نكون على يقين تقريبًا بأنّ يوحنّا قد عرف إنجيل مرقس، أو على الأقلّ، ما وراءَه من تقليد أو تراث سَماعي.
إنّ الأصحاحَ السادس مدهشٌ لمن يتذكّر أن يوحنّا في إنجيله، لا يكتب عنِ الطريقة التي أمرنا بها يسوع بشأن تناول القربان المقدّس. الإنجيلي لا يتحدّث حتّى ولو مرّة واحدة مباشرة عن العَشاء الربّاني (العَشاء الأخير، القُربان المقدّس، سرّ التناول/المناولة، مائدة الربّ، الأفخارستيا) . ولكن من المستحيل فهمُ هذا الأصحاح بأيّة طريقة أخرى سوى أنّه يشير باستمرار إلى القربان المقدّس.
لم يتمكّنِ العلماء من شرح السبب الذي جعل يوحنّا يتكلّم ضمنًا فقط عن كل من السرّين، القربان المقدّس والمعمودية. ربّما لأنّه وثق بكتابات أسلافه - أولًا وقبل كلّ شيء إنجيل مرقس - وأراد أن يكتب لأولئك الناس الذين قد توفّرت لديهم المعرفة الأساسية اللازمة. أو أنّه لم يرغب في نشر أسرار ملكوت الله لئلّا يراها أحد.
من الممكن فهمُ الأصحاح السادس بعد قراءة الأصحاح الخامس. ففي نهاية الأصحاح الخامس، يتحدّث يسوعُ عن كيف أنّ موسى قد أعلن عنه. على الرغم من أنّ اليهود لم يتمكّنوا من العثور على هذه الشَهادة، فإنّه من الممكن رؤية عمل المسيح وشخصيته في العهد القديم. وهذا متعلّق بأُعجوبة الإطعام ومشي يسوع على الماء.
أُعجوبة الإطعام ٦: ١-١٥
قبل بضعة قرون من الزمان، كانتِ الفكرة أنّ يسوعَ قد أطعم آلافَ الناس أمرًا لم يستسغه المثقّفون. بادئ ذي بدء، كان من الممكن أن تكون أعجوبة خارقة لقوانين الطبيعة، و”الأعاجيب لا تحصُل“. ثانيًا، اعتُقد أنّ يسوعَ كان شيئًا آخرَ، أكثر من صانع خبز. وهكذا، تمّ تفسير الأُعجوبة بأنّها غيرُ موجودة - وأنّ يسوع في الواقع لم يُضاعف عددَ الخبز، ولكنّه قدّم مِثالًا رائعًا بالنسبة للناس الذين تقاسموا خبزَهُمُ الخاصَّ مع الجياع.
في الواقع، على قارئ أُعجوبة الإطعام (خمسة آلاف إنسان بخمسة أرغفة وسمكتين، إنجيل يوحنّا ٥: ٨-١٥) أن يفتح كتاب العهد القديم، وهذه المرّةَ على سِفر الملوك الثاني ٤: ٤٢-٤٤. إنّ سلسلة الأحداث وحتّى الكلمات، هي ذاتُها تقريبًا كما في إنجيل يوحنّا. والآن نُدرك أيضًا أنّ الناس اعتبروا يسوعَ المسيح نبيًّا بسبب الأُعجوبة: أعمال الله العظيمةُ، يمكن أن يراها أبناءُ شعبه. ونحن نعي ما كان معنى هذا، في وقتٍ توقّع فيه الناس بلهفة ملكوتَ الله ليظهرَ للعِيان. من المحْزن أن يرى الإنسان مع النجاح الاستنتاجَ الخاطىء والضلال.
شاهد الناس الأُعجوبةَ وأقرّوا بأنّها عملُ الله - ولكنّهم رفضوا أن يكون يسوعُ ٱبنَ الله. يسوع ليس ”مسيح/مسيّا الخبز“. لا ينبغي أن نبحث عنه من أجل مساعدتنا في مشاكلنا الحياتية فحسب. إنّ الغايةَ من العجائب كانت دخولَ قلوب الناس واحتلالَها.
اللهُ يَظْهَرُ للناس ٦: ١٦-٢١
إنّ أعجوبة المنِّ في العهد القديم، والخلاص الخارق العجائبي المتمثّلَ بانشقاق البحر الأحمر إلى قسمين وانقاذ بني إسرائيل وتحريرهم من عبودية مصرَ، كانت ذات صلة. بهذه الطريقة، يشهد الكتاب المقدّسُ بالمسيح الذي يكرّر هاتين الأُعجوبتين. والصلة هنا بالأناجيل الثلاثة الأولى جليّة. قصّة يوحنّا لا تقتصر على معجزة عبور يسوع الأعجوبي، ولكن أيضا ”معجزة الهبوط/الرسو“ - على الرغم من أنّهم قد جدّفوا خمسة - ستّة كيلومترات، وصل القارب على الفور إلى الشاطئ عندَ وصول يسوع.
كلمتا يسوع مدهشتان، ”أنا هو“، إنّهما تذكّرانا برّد الله على موسى عندما سأل موسى عن ٱسم الله: ”أنا هو الذي هو“. (سفر الخروج ٣: ١٤) هذه القصّة لا تحكي عن سلوك طريق قصيرة (مْقوطَعه) في البحيرة، إنها قصّة الوحي من سبحانه وتعالى. وكان بالضبط ما قاله الأصحاح الأوّل عنه.
يسوعُ المسيحُ خبزُ الحياة ٦: ٢٢-٥٩
قد تعوّدنا على الحقيقة بأنّ يوحنّا لا يروي القصصَ عن الأعاجيب، لأنّها مثيرة ومشوّقة فقط. أعمال يسوعَ تشير دائمًا إلى شأن (قضيّة) أعمقَ وأكبرَ. في هذه الحالة: تتبَع أعجوبةَ الإطعام مناقشةٌ حولَ خبز الحياة. السِّمة المروّعة في القصّة، هي أنّه بعد الأعجوبة العظيمة، أُسيء فهمُ يسوعَ المسيحِ وتمّ التخلّي عنه، أُهمل وهُجر.
من هذه القصّة الغنيّة والمثيرة للاهتمام، أكتفي بطرح بعض القضايا المركزية. عندما يتحدّث يسوعُ عن خبز الحياة، تكون للقصّة، على الأقل، ثلاث طبقات:
١) أعجوبة الإطعام قد حصلت للتوّ، وكان هناك الخبز العادي فقط. اعتقد اليهودُ أنّ خبزَ الحياة هو الخبز العادي الذي لا ينتهي أبدا.
٢) في الخلفية يكمُن الأصحاح التاسع من سِفر الأمثال (لا سيّما الأعداد ١-٦) الذي يحكي عن عيد الحكمة. ونحن نتذكّر أنّه في مقدّمة إنجيل يوحنّا، الحكمة = الكلمة = الكلمة أصبحت بَشرًا وعاشت في وَسَط الناس. وبهذه الطريقة، يسوع المسيح هو بالضبط الحكمةُ المتجسّدة، وهو يدعو الناسَ إلى التخلّي عن دروب خاطئة، والانخراط في مسار الحكمة والبصيرة.
٣) في الخلفية يكمُن عَشاء العهد الجديد، القُربان المقدّس. يوحنّا لا يتكلّم عن ذلك مباشرة، ولكن بوضوح كافٍ. الكلام عن تناول لحم المسيح والحياة الأبدية يُشيران إلى القُربان المقدّس. وهذا واضح بالفعل في العدد الحادي عشر، حيث اختيارُ الكلمات متطابقٌ تقريبًا لتلك التي ينطِق بها يسوع، عند إعداد العَشاء الربّاني.
كانت معجزة الإطعام، وَفقا لتعليم يسوع، شأنًا جانبيا. لم يكن يُبحث عنه من أجل الخبز فقط. رسالته الحقيقية كانت إحضارَ نعمة الله للناس. وجوهر كلّ شيء هو موت المسيح: يسوع يموت عن خطايا كلّ العالَم، ويدعُ دمه يسيل من أجل مغفرة خطايا العالَم؛ وهكذا يصبح هو خبزَ الحياة. الحكمة تدعو لعيده، ألا وهو، الله يدعو الناس من الظلام للعيش في نوره. كلّ من يحِلّ ضيفًا في هذه المأدَبة يكون قدِ انتقل من الموت إلى الحياة.
إنّ تسليطَ الضوء الحقيقيِّ كامنٌ في الأعداد ٥٢-٥٩. إنّها تستعيد أكثرَ الحقائق مصيريةً في إنجيل يوحنّا: يحصُل الناس على الخلاص الكامل من يسوعَ المسيح، ومنه فقط.
شعبُ إسرائيلَ يتذمرُّ في البريّة ٦: ٦٠-٧١
أُعجوبة الإطعام لم تخلُقِ الإيمانَ، بل على العكس من ذلك، إنّها دمرّته. تقاطرتِ الحشود لرؤية يسوعَ، ولكن الآن نفس الناس كانوا يسيرون في الاتّجاه المعاكس. خطاب يسوعَ عن خبز الحياة، قد أهان الناس وطردهم. يسوع المسيح يعلِّم أنّه لا يتسنّى لأحدٍ أن يأتيَ إليه بمُفرده، بقِواه الذاتية. كبحُهم ومنعهم كان لا طائلَ تحته. حتّى التلاميذ الاثني عشرَ يتردّدون في ما يجب القيام به. وكما هو الحال لدى مرقس في قيسارية، الآن وَفقًا ليوحنّا في كفرناحوم، بطرس يعترف بشجاعةٍ وبشكل قاطع بإيمانه بالمسيح.
تمامًا كما تمرّد بنو إسرائيلَ ذات مرّة ضدّ النبيّ موسى، هكذا كان الناس الآنَ ضدَّ المخلِّص الذي أرسله الله. الجميع مدعوّون إلى وليمة الحِكمة، ولكن قلائل ينْوون المجيءَ وفي ما بينهم يختبىء ظلُّ خيانة أسْودُ. إنّ سرّ المسيح، كما يؤكّده مرقس، موجودٌ في إنجيل يوحنّا أيضا. ومع ذلك، خُطّة الله قد أُنجزت تمامًا كما خطّطها ربُّنا.