القديم والحديث - معْركة المسيحيّ المستمرّة
تشمُل رسائلُ الرسول بولُسَ تعاليمَ هامّة كثيرة، لا تتكشّف بسهولة إذا قرأنا إصحاحًا واحدًا فقط من الكتاب المقدّس. إنّنا بحاجة لقراءة الكثير من كِتابات بولسَ الرسول جنبًا إلى جنب مع تعميق فهمنا. وهذا الأمر بالضبْط ما يجعَل الكتابَ المقدّس مُثيرا - إنّها رِحلةُ استكشاف لمدى الحياة.
ندرسُ، هذه المرّةَ، ما يُعلّمُه بولس الرسولُ عن ”الإنسان القديم“ من جهة و”الإنسان الجديد“ من جهة ثانية. يرتبط هذان المفهومان ارتباطًا وثيقًا بأزواج من المفاهيم الأخرى. كما يمكنُنا التحدّث عن ”آدم القديم“ و ”آدم الجديد“، أو عن ”الجسد” و “الروح”. هذه المفاهيم ليست متطابقةً إلّا أنّها، إلى حدّ كبير، تتحدّث عن الشيء ذاته. في الواقع، إنّنا نصِلُ في آخر المطاف إلى قضايا عملية وبسيطة جدّا، وهي في لُبّ الحياة المسيحية.
جانِبا المسيحيِّ
الكلمتانِ الأكثر شيوعًا عند الرسول بولُس هما ”الجسد“ و ”الروح“. قد يُسيء القارىءُ فهمَ ذلك: في هذا السِّياق لفظة ”جسد“ لا تعْني ما هو جسديّ وشرير، ولفظة ”روح“ لا تعني عضوًا نقيًّا وغير مادّيّ في الإنسان. يُذكر أنّ هذا النمطَ من الفصل بين الجسد والروح، يعود إلى الفكر اليوناني. في الفكر العبري، من جهة أُخرى، يُعتبر الإنسان وَحْدة واحدة لا تتجزّأ. تكتسب اللفظةُ عند بولسَ الرَّسولِ معنىً آخرَ، بسيطًا في الحقيقة: لفظة ”الجسد“ تُشير إليّ أنا كما أكون بدون عمل المسيح الافتدائي. وهذا يُشير إلى الشخص بأكمله. وتُشير لفظة ”الروح“ إلى نفس الشخص كلّه، ولكنّه مُفْتدىً، وهو الآنَ منتمٍ إلى الله.
وهكذا نأتي إلى ما سنتناولُه اليوم. للمسيحيّ جانبان، ولكن لغير المؤمن، للكافر، جانبٌ واحد فقط. في المسيحي يكون كلاهما، ”الجسد“ و ”الروح“، ”الشخص القديم“ و ”الشخص الجديد“، ”آدم القديم“ و ”آدم الجديد“، ”الخلق القديم“ و ”الخلق الجديد“ - وبولس الرسول يستعمل كلَّ هذه العبارات. لدى المسيحيّ كلاهما وبالتالي ثمّة معركة في القلب. دعُونا ننظرُ إلى ما هي ماهية هذين الجانبين بالضبط.
قديم ومُدان
قد يكون الإصحاح الأوّلُ من رسالة بولسَ الرسول إلى أهل رُومية، أكثرَ الأوصاف بؤسًا لحالة الإنسان في قوّته هو. لفظة ”الجسد“ غير موجودة، إلّا أنّ القضيةَ واضحة. لقد أدار الجنس البشريُّ بأكمله ظهرَه إلى الله، واختار أن يخدِم آلهة مزيّفةً بدلًا من مجد الله. ولهذا السبب، أدار الله ظهرَه للبشرية، متخليًا عنها لتعيشَ في الخطيئة. وعليه، فإنّ كلَّ إنسان يبدو وكأنّه مُقْفَل في ظلام دامِس، حيث لا يشرقُ فيه أيُّ شعاع من النور. هذه الدنيا هي ملكوت الخطيّة والموت. وتلك الحياة تكون بدون الله. وسيحِلّ غضبُ الله ذاتَ يوم على ملكوت الخطية والموت. القضية لا تتعلّق بأفعالٍ فردية لشخص ما، بل تشمُل ردّة العالَم الكاملة والحُكم التامّ المرتبط بها.
في الإصحاح السادس من رسالة الرسول بولُسَ إلى أهل رومية، وصفٌ تقريبي للجانب القديم في الإنسان.
١٨ فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ سَاكِنٌ فِيَّ، أَيْ فِي جَسَدِي، شَيْءٌ صَالِحٌ. لِأَنَّ ٱلْإِرَادَةَ حَاضِرَةٌ عِنْدِي، وَأَمَّا أَنْ أَفْعَلَ ٱلْحُسْنَى فَلَسْتُ أَجِدُ (رومية ٧: ١٨).
يوضح كلُّ هذا القِسْم بأنّ الجانبَ القديم في الإنسان لا شيءَ حسنًا فيه ليقدّمَه لله، إنّه فاسدٌ تمامًا، بعيدٌ كليًّا عن الله وموجودٌ كليًا تحت المحاكمة.
ويقدّمُ الإصحاح الخامسُ من رسالة الرسول بولُسَ إلى أهل رومية، صورةً توضيحية وقاسية لآدمَيْن: الأوّل سقط في الخطيّة واستحقّ ميراثه - الخطيّة، الموت والجحيم. وهذا الميراث أعطاه للجيل التالي ومن هنال دَوالَيْكَ، من جيل إلى آخر. حصلت عليه من والديّ ونقلتُه إلى أولادي.
ليس من اللياقة في مهْد المولود الجديد التذكير بالحقيقة القائلة، بأنّ الطفلَ سيموت ذات يوم. هذا صحيح، والواقع يقول إنّه ملوَّث بالخطيئة ويستحقّ اللعنة - الـ ”آدم العتيق“، ”شخص قديم“، ”الجسد“ (أو كما ورد في بعض ترجمات الكتاب المقدس ”الطبيعة الأنانية“ و”أنا الفاسق/الفاسد“) تسكُنُ وببساطة فيه. نحن جميعًا، بغضّ النظر عن السِّنّ أو الجنْس، مسْتعْبَدون لمصير هذا العالَم البائس.
جديد ورائع
إنّ الرسالة الرئيسيةَ لرسائل الرسول بولسَ الرسول، هي أنّ اللهَ قد أرسل ابنَه إلى هذا العالَم، ليمنحَنا شيئًا جديدًا تماما. ما حدث في الجُلجُثة كان مُخطَّطًا له في قلب الله الآب، قبل خلْق الأرض بوقت طويل.
١٧ إِذًا إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ: ٱلْأَشْيَاءُ ٱلْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ، هُوَذَا ٱلْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيدًا. ١٨ وَلَكِنَّ ٱلْكُلَّ مِنَ ٱللهِ، ٱلَّذِي صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، وَأَعْطَانَا خِدْمَةَ ٱلْمُصَالَحَةِ، ١٩ أَيْ إِنَّ ٱللهَ كَانَ فِي ٱلْمَسِيحِ مُصَالِحًا ٱلْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ، وَوَاضِعًا فِينَا كَلِمَةَ ٱلْمُصَالَحَةِ. ٢٠ إِذًا نَسْعَى كَسُفَرَاءَ عَنِ ٱلْمَسِيحِ، كَأَنَّ ٱللهَ يَعِظُ بِنَا. نَطْلُبُ عَنِ ٱلْمَسِيحِ: تَصَالَحُوا مَعَ ٱللهِ. ٢١ لِأَنَّهُ جَعَلَ ٱلَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لِأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ ٱللهِ فِيهِ. فَإِذْ نَحْنُ عَامِلُونَ مَعَهُ نَطْلُبُ أَنْ لَا تَقْبَلُوا نِعْمَةَ ٱللهِ بَاطِلًا (٢ كورنثوس ٥: ١٧-٦: ١).
لا يستطيع المَرْءُ مساعدةَ نفسِه، ولكنّ اللهَ فعل في الجلجثة ما كان مستحيلًا على الإنسان. يُمكن وصفُ عملِ الله الخلاصيِّ باستعارات كثيرة، ولكن ربّما أكثرها جلاءً هي: ”خلق جديد“، إصلاح ما تحطّم وتعطّل من جرّاء الخطيئة بعد الخليقة الأولى. إنّها إبعاد آدم القديم ومنْح الجديد. إنّها لحظةُ منح الروح المتحوّلة إلى الله وإلى العيش من أجله.
كُن عُريانا - كُن مُرتديا
لقد وقع الإنسان في الخطيّة وهو "جسد" في قوّته. ولكن لدى المسيحيّ إضافة إلى ”الجسد“ هنالك ”الروح“، تلك الهِبة الكريمة التي منحه إيّاها الله. والمعركة بينهما، بين ”الجسد“ و ”الروح“ مستمرّة ، جامحة وقاسية. تختلف الصوَر، إلّا أنّ المشكلة والقضيةَ واحدة: الجسد والروح يتصارعان، يتعاركان. وفي الإصحاح الخامس من رسالته إلى أهل غلاطيّة يشرَح بولسُ الرسولُ كيف تخلُق الروح ”أعمالَ الروح“، بينما يُنتِج اللحم/الجسد ”أعمالَ الجسد“.
١٦ وَإِنَّمَا أَقُولُ: ٱسْلُكُوا بِٱلرُّوحِ فَلَا تُكَمِّلُوا شَهْوَةَ ٱلْجَسَدِ. ١٧ لِأَنَّ ٱلْجَسَدَ يَشْتَهِي ضِدَّ ٱلرُّوحِ وَٱلرُّوحُ ضِدَّ ٱلْجَسَدِ، وَهَذَانِ يُقَاوِمُ أَحَدُهُمَا ٱلْآخَرَ، حَتَّى تَفْعَلُونَ مَا لَا تُرِيدُونَ (غلاطيّة ٥: ١٦-١٧).
في ما يلي قائمةٌ طويلة من ”ثِمار الروح“ ومن ”أعمال الجسد“ وفيها تحذيرٌ خطير أيضا.
يجيب بولس الرسول في الإصحاح الثالث من رسالته إلى أهل رومية عن السؤال: أيجوز للمسيحي أن يقترف الخطيّة بحريّة، لأنّ كلَّ شيء يُغْفَر؟ وجاء الجواب صارمًا: كلّا! لأنّنا قد تعمّدْنا والمعمودية تعني موتَ الإنسان القديم وولادة الجديد مجدّدا؛ ونعود إلى هذا دوْما.
٣ أَمْ تَجْهَلُونَ أَنَّنَا كُلَّ مَنِ ٱعْتَمَدَ لِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱعْتَمَدْنَا لِمَوْتِهِ، ٤ فَدُفِنَّا مَعَهُ بِٱلْمَعْمُودِيَّةِ لِلْمَوْتِ، حَتَّى كَمَا أُقِيمَ ٱلْمَسِيحُ مِنَ ٱلْأَمْوَاتِ، بِمَجْدِ ٱلْآبِ، هَكَذَا نَسْلُكُ نَحْنُ أَيْضًا فِي جِدَّةِ ٱلْحَيَاةِ؟ ٥ لِأَنَّهُ إِنْ كُنَّا قَدْ صِرْنَا مُتَّحِدِينَ مَعَهُ بِشِبْهِ مَوْتِهِ، نَصِيرُ أَيْضًا بِقِيَامَتِهِ. ٦ عَالِمِينَ هَذَا: أَنَّ إِنْسَانَنَا ٱلْعَتِيقَ قَدْ صُلِبَ مَعَهُ لِيُبْطَلَ جَسَدُ ٱلْخَطِيَّةِ، كَيْ لَا نَعُودَ نُسْتَعْبَدُ أَيْضًا لِلْخَطِيَّةِ (روميّة ٦: ٣-٦).
وفي الإصحاح الثالث من رِسالة الرسول بولُس إلى أهل كُولُسّي استعارةٌ توضيحية لهذا الوضع:
٨ وَأَمَّا ٱلْآنَ فَٱطْرَحُوا عَنْكُمْ أَنْتُمْ أَيْضًا ٱلْكُلَّ: ٱلْغَضَبَ، ٱلسَّخَطَ، ٱلْخُبْثَ، ٱلتَّجْدِيفَ، ٱلْكَلَامَ ٱلْقَبِيحَ مِنْ أَفْوَاهِكُمْ. ٩ لَا تَكْذِبُوا بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، إِذْ خَلَعْتُمُ ٱلْإِنْسَانَ ٱلْعَتِيقَ مَعَ أَعْمَالِهِ، ١٠ وَلَبِسْتُمُ ٱلْجَدِيدَ ٱلَّذِي يَتَجَدَّدُ لِلْمَعْرِفَةِ حَسَبَ صُورَةِ خَالِقِهِ (كُولُسّي ٣ : ٨- ١٠).
إنّ حياةَ المسيحيّ تكون هكذا بالضبط: إنّنا نخلَعُ، ننزَع ”الجسد“ ونلبَس، نرْتدي ”الروح“. هذه العملية لا تحدُث مرّةً واحدة فقط، بل طَوال حياتنا على هذه الأرض. بعد ذلك، ”الجسد“، ”الإنسان القديم“، ”آدم القديم“ - أو أيّة عبارة أُخرى قد نستخدِمُها - تبْقى هنا، أمّا ”الإنسان الجديد“، المقدَّسُ بيسوعَ المسيحِ فسيصلُ إلى الملكوت السماويّ.