عائلةُ الله - رِسالةُ يوحنّا الأولى الأصْحاح 5
خلال دراسة رسالة يوحنّا الأولى، ٱستمعنا إلى عِظات متطلّبة وصارمة. وذلك بالإضافة إلى تقديم ضمانات من المواساة والملهِمة بالنعْمة. الآن، في الأصْحاح الأخير من الرسالة، يتحدّث يوحنّا بشكل أساسيّ عن مُتلقّي الرسالة ويُخاطبُهم حاثًّا إيّاهم على محبّة بعضهم البعض.
الآبُ المشتركُ يجلِب المحبّةَ الأخويّة 5: 1-4
يتوجّه يوحنّا بكلامه إلى مستلِمي رسالته. الآن، لا يتعلّق الأمر بشعوب العالَم ولا بالجِنس البشريّ بشكل عامّ، بل يتعلّق، بشكل خاصّ، بالعلاقات بين المسيحيّين أنفسهم بالتَّحديد. إنّ الإيمانَ بالمسيح لا يتأتّى منَ الإنسان نفسِه بل منَ الله. والمؤمن المولود من الله، مولودٌ من جديد. ومع ذلك، فهو ليس بالابن الوحيد في عائلة الله، فهنالك للربّ آخرون كثيرون من أبناء وبنات. والجميعُ بالنسبة للمؤمن المسيحيّ إخوةٌ وأخَوات في الإيمان، إنّهم أبناءُ نفس الآب. كلّ مَن يُحبُّ الآب، يحبُّ أبناءَه أيضًا - كلّ أولئك الذين، بنعْمة الله، أصبحوا شُركاءَ مِثلنا بشكل رائع في الإيمان. إنّ محبّةَ الله لأمرٌ ملموس جدًّا: فهي أوّلًا تتجلّى في علاقتنا معَ المؤمنين، خاصّة الله، وثانيًا، في علاقتنا بوصاياه. إنّ الإيمان الذي يكمُن وراءَ كلّ هذا، هو عطيّة الله، ولأنّه من عند الله، فإنّه ينتصرُ على العالَم أيضًا. شُعلة الإيمان لا تنطفئ، بل تبقى ملتهبةً وتُدفئ الآخرين بمحبّتها. وصايا الله ليست بثقيلة على الإيمان، بل سهْلة التنفيذ.
لقد تعلّمنا من هذه المحاضَرات أنّ رسالةَ يوحنّا الأولى، تتضمّن الكثيرَ في بِِضع كلمات فقط. الأمر نفسه موجودٌ هنا أيضًا، ويُمكنُنا الخوض في الكثير من الأمور الهامّة. على النقيض منَ الادّعاءات المقدّمة، نحن لا نستطيع خلقَ الإيمان لوحدنا، فذلك عطيّة منَ الله. والأمر شبيهٌ تمامًا بحالة الولادة: إذا لم تلِد الأمّ، فلا يولَد أيُّ طفل. إنْ لم يُولِدْنا اللهُ من جديد، أي يمنَحُنا هِبةَ الإيمان، فالإيمان عندَها لا يُمكن أن يتكشّف فينا. لا جدْوى من أيّ قَدْرٍ منَ الضَّغط الدينيّ أوِ الترهيب أو تلميع لصورة الكنيسة، أو أن تكونَ مِثالًا مُمتازًا، لأنّ الإيمانَ باقٍ هديةً منَ الروح القُدس. وهذا يجعلُنا متواضعين أمامَ الربّ. إنّنا نُصلِّي إلى الآب، بدون كِبرياء، وبدون أيّة قوّة بنا، من أجل أن يمنحَنا إيّاها لكي نفْهم نعمتَه ومحبّته. لا نريد أن نقِف مكتوفي الأيدي، منْتظرين دخول الإيمان. ومن أجل حُدوث ذلك، ينبغي اِستخدام أدواتِ الروح القُدس، الكتاب المقدّس، الأسرار المقدّسة: المعموديّة، التَّحِلّة (التبرئة، الغُفران)، والمُناوَلة المقدّسة (عشاء الربّ/العشاء الربّانيّ). ومن خِلال كلّ ذلك، يعمَل الله في وسَطنا ويخلُق إيمانَنا ويصونه. بدون هذا، لن يحصُل شيء يُذكَر في هذا المجال الأكثر أهميّة في حياتنا.
غالبًا ما نتكلّم عن ”الإخوة والأخوات في الإيمان“. بينما نحن هنا، بصدد هذه الفقرة من الكتاب المقدّس، فقد يجدُر بنا بالذكر، أنّ هذه العبارات ليست مجرّدَ كلمات جميلة. عندنا آب مشترك. لا توجد منازل يرغبُ الوالدان في أن يستمرَّ أطفالُهم في الشِّجار، كما هي الحال بين القِطط والكلاب. يُعَدُّ الخِلاف بين الأطفال، أوِ الغضب بين أفراد الأُسرة، قضية مريرة لكثير من الآباء. ولكن، من ناحية أخرى، نرى أنّ المحبّةَ تُجاه بعضهمِ البعْض تجعلُهم سُعداء. وينسحب الأمرُ ذاتُه بالنسبة لعائلة الله. ولا يجوز أن يكون أيُّ مكان للكراهية والغضب، في عائلة الله بصورة خاصّة.
وصايا الله، بالنِّسبة للأشخاص الذين يعتمدون فقط على أنفسهم، مستحيلة بالكامل. وبالنسبة لغير المؤمنين، فإنّ الوصايا تُظهِر فقط إلحادَهم وجحودَهم، إذ أنّهم عندما يقرؤون الوصايا، يروْن أنّ حياتَهم مختلفةٌ عن تلك التي أمرهُم بها. عدمُ الإيمان لن يذعنَ لحكمة الله. إنّ المؤمنَ، كما أكدّنا مرارًا أثناء دراسة هذه الرسالة، غيرُ مكتمل وخاطئ من نواحٍ كثيرة. ومع ذلك، سيخضَع الإيمان الذي منحه الله لوصاياه. هنالك معركة في داخلنا: ذاتنا، أي عدم الإيمان، ما فينا من ضدّ المسيح أي الإيمان. معَ استمرار هذا الوضع، فإمّا أن نتمسّك بكلّ عِمْلة معدنيّة أو أن نتخلّى عن آلاف اليوروهات بكلّ سُرور وحُبور؛ إمّا أن ننتقمَ من إهانة ونردّ عليها بإهانة أو نغفِر ونصفَح ؛ وإمّا أن ننام نومًا عميقًا يومَ الأحد، أو نذهب إلى خِدمة القدّاس، لنمجّدَ فادينا مع شعب الله.
5: 12-5 رسالةُ اللهِ إليْنا
=======
يمكنُ العثورُ على إنجيل بسيطٍ للغاية في القِسم التالي. لا يشهَدُ الناس فحسبْ عن يسوعَ ولكن أيضًا، وقبل كلّ شيء الله الآب. إنّه يشهَد عن ٱبنه المسيحِ يسوعَ بهذا النحو: الله منحَنا الحياة الأبديّةَ في المسيح. إذا كان لدينا المسيح، فلدينا الحياة الأبديّة؛ وبالعكس إذا لم يكُن لدينا المسيح، فلن تكون لدينا الحياة الأبديّة. لقد شهِد الله بهذه الشهادة عدّةَ مرّات. صدى ذلك تجلّى عندما تعمّد المسيح، لكنه اتّضح في موته وقيامته أيضًا. إنّ قيامةَ المسيح هي ”آمين“ الله العظيم الذي أظهر فيها أنّه قد قبِل الذبيحة الكفّاريّة، التي قدّمها ٱبنُه عن خطايا العالَم أجمع. لذلك، فإنّ عَمَلَ الله للخلاص يرتبِطُ ٱرتباطًا وثيقًا جدّا، لا سيّما بمسيرة يسوعَ التاريخيّة على الأرض.
يُصبحُ الجزء المكوَّنُ من الآيات 6-8 مفهومًا، عندما نعلمُ أنَّ بعضَ التعاليم الكاذبة في ذلك الزمن، أنكرت تَألُّمَ يسوعَ وموتَه على الصليب. إلّا أنّها ٱعترفت، أنّ الله قدِ ٱعترف بأنّ المسيحَ هو ٱبنه، أثناءَ معموديّة يسوعَ في نهر الأردن. وبموجب تلك التعاليم، كان يسوعُ مجرَّد نوعٍ منِ الكائنات الإلهية وروحًا فقط، لا يُمكن بأيّ حالٍ من الأحوال أن يتألّم ويموت على الصليب. وبخلاف هذه البِدع والهرطقات، يُعلّم يوحنّا، بطريقة بسيطة وواعية، حقيقة الله الكاملة: لم يكن يسوعُ الإلهَ الحقيقيَّ فحسبْ، بل كان إنسانًا حقيقيًّا، سفك دمه الكفّاريّ الثمين على الصليب أيضًا. فمعموديّته تشهَد بنفس الحقيقة كموته، والروح القدُس مع هذه الشهادة. معموديّتنا وشرِكتُنا في القُربان تعْنيان أنّ الله لم يُعطِ شهادتَه مرّة واحدةً فقط في الأرض المقدّسة، لكنّه يُعطيها بٱستمرار في كنيسته.
5: 21-13 اِنتهاءُ الرِّسالة
يبدأ يوحنّا بإنهاء رسالته. يستهلُّ الجزءُ الختاميُّ بطمْأنة مُفرحة، سارّة: أولئك الذين هم حقًّا خاصّةُ الله، لهمُ الحياة الأبديّة، وقد نالوا التبنّي كأبناء الله. كما لدينا الثقة في أنَّ صلواتِنا مسموعةٌ في السماء. في هذا السياق، السؤال الأبرز يدور حولَ صلاة الشفاعة من أجل مؤمنٍ آخرَ. نحن نؤكّد أنّ الصلاة ستُسمع وتُستجاب بالتأكيد، وأنَّ الغفران مؤكّد من أجل المسيح، ما لم يرتكِبِ الشخصُ خطيئةً ”تؤدّي إلى الموت“.
أثارتِ العِبارتان ”الخطيئة التي تُؤدّي إلى الموت“ و ”الخطيئة التي لا تؤدّي إلى الموت“ الكثيرَ منَ الأسئلة في أوساط قرّاء الرسالة في الوقت الحاضر. هل هنالك خطايا يمكنُ أن تُرتكب بثقة وبيَقين؟ وهل هنالك خطايا مُستثناة حتّى من صلاة الشفاعة؟
غالبًا ما يطلُب الكتابُ المقدَّسُ من قارئه، معرفة كيف كانت بعض مواقف وعادات الكنيسة الأولى في الممارسة العمليّة. الكنيسة الأولى، أدركت أنّها تتكوّنُ من خُطاة يحتاجون إلى الرحمة والمغفرة. ومع ذلك، كانت هنالك حالات أدّت إلى طَرْد الشخْص من جماعة المصَلّين. ولقد وُصفت إحدى هذه الحالات في رسالة بولس الأولى إلى كنيسة كورنثوس (الأَصْحاح الخامس). عندما كان يُطْردُ شخصٌ ما من الكنيسة، كان يوضَّحُ له أو لها، أنّه قد فَقَد/فقدت نعمةَ الله ومغفرتَه. كان نظامُ الكنيسة صارما، لكنَّه كان جزءً منَ الإرشاد الروحيّ. عَرف المطرود، على الأقلّ، أنّه في طريقه إلى الهاوية إن لم يتُبْ ويعُدْ إلى الطريق السويّ، وبمقدوره أن يعودَ ويحصُل على المغفرة من جديد. هذا يعني، أنّه سيعود إلى الرعيّة ويتخلّى عنِ البِدع والهرطقات، أو بعض الخطيئة الجسيمة، التي كان يجدّف بها على الله. يبدو أنّ وراءَ الكلمات المبهمة لرسالة يوحنّا الأولى، هذه الممارسة بالذات: في جماعة المصلّين، كانت هنالك شفاعة متبادَلة مستمرّة، صلاة إلى الله لكي يرحمَ المسيحييّن الآخرين أيضًا، ويغفِرَ لهم خطاياهم. إنّ المطرودين من الكنيسة لم يكونوا مُنخرطينَ في عمل المسيح، وهذه الصلاة لم تخصُّهم. كان بالإمكان الصلاة لهم من أجل التوبة والابتعاد عن الخطيئة، وهذا الأمر مختلفٌ تمامًا.
يبدو لنا أنّه من المدْهش والصعب، التعرّف على نظامَ (انضباط) الكنيسة الأولى. وهذا بالكاد ما نقوم بمثله في الوقت الحاضر. وهذا يرجِعُ فقط إلى الفرديّة والليبراليّة في عصرنا: الكنيسة الأولى ليست اِستثنائيّةً على اِمتداد ألف عام، لكنّنا نحنُ. هل نتصوّر أنّ الطريقَ إلى الجحيم قد أصبح أضيقَ وباب الجنة أوسع، ونحن البشر لم نعُد نحذِّر ولا نحُثّ الناس. كانتِ الوصيّة في الكنيسة الأولى واضحةً بصدد صرامة الله ونعمته. وهما تقودان إلى تحمّل المسؤوليّة إزاءَ القريب، وكذلك عند وُجوب استخدام وسائلَ وإجراءات في غاية الشدّة. أين مسؤوليّتُنا تُجاهَ القريب؟ أنَسأل كقايين: ”أحارسٌ أنا لأخي؟“ (سِفْر التكوين 4: 9).
في الآيات الأخيرة منَ الرِّسالة، يقدّم يوحنّا خلاصةً عظيمة: المولودُ منَ الله لا يقترفُ خطايا، ولا يكون تحتَ سُلطان الشرّير كما في العالَم. سوف نُخلَّصُ في اليوم الأخير من خِلال المسيح، الإله الحقّ، إلى الأبد. من يُنكرُه ويكفُر به لا يخدِمُه وعن هذا يُحذّر يوحنّا بشدّة.
وهكذا، كلماتُ الرّسالةِ الأخيرةُ، تؤكّد ما في الرسالة كلِّها. على الإنسان أن يحْيا كٱبن الإنسان وليس كما في العالَم، ويظَلّ في المسيح، لأنّه الأملُ الوحيد لخطيّة الإنسان. هاتان الفِكرتان تُغطّيان معظمَ بُشرى رسالة يوحنّا الأولى. أمامَنا رسالةٌ حارّة في الإرشاد الروحيّ، فيها شدّة وصرامة، وتعكسُ محبّةَ الكاتبِ العظيمةَ للقرّاء.